مهزلة العلم في زمن الديمقراطية

 

قدر الله سبحانه وتعالى العلم والعلماء في محكم كتابه العزيز بقوله ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) , لم يقل الذين يملكون والذين لا يملكون , أو الذين يحكمون والذين لا يحكمون , الملك والمال والحكم كلها أشياء إلى زوال , لكن العلم بالشيء قيمة باقية , تدوم مع المرء إلى يوم موته مادام قد علم بها .

ورغم قيمة العلم الجليلة إلا أن بعض ( الصفوة ) يستبيحون الاستهتار بهذه القيمة فيمنحون أنفسهم بطريقة ما ألقابا علمية لا يحلمون بحملها , مكابرة وبحثا عن مكانة سامية ( يعرفون تماما ) أنهم غير أهل لها .

منتصف الثمانينات ... قام طالب نجيب من كلية القانون والسياسة في جامعة بغداد بكتابة أطروحة دكتوراه عنوانها ( العدالة في فكر الرئيس القائد صدام حسين ) منح على أثرها شهادة الدكتوراه بامتياز . وقامت عمادة الكلية تزلفا بمنح الدكتوراه الفخرية إلى صدام حسين نفسه , وليس لدينا اعتراض على ذلك فالرجل كان رئيس دولة , لكن اعتراضنا أنه ( ساقط ) في الصف الثاني من كلية الحقوق التي زجه فيها عبد الناصر أيام كان لاجئا في مصر , فكيف تمنح له الدكتوراه الفخرية في علم هو ساقط فيه أصلا ؟ أليس من أول شروط الدكتوراه الفخرية هو تميز الممنوحة له في ذات المجال , أم أن السقوط في الدراسة يعتبر تميزا في مثل هذه الحالة ؟؟ الله أعلم .

بعد حصول صدام على الدكتوراه الفخرية في القانون نصب له تمثال كبير الحجم لونه أسود يرتدي فيه الرئيس الروب الجامعي ويحمل الشهادة بيده وسط الحرم الجامعي لجامعة بغداد / الجادرية , وسط احتفال مهيب .

لقلق مناضل معترض على هذا النوع من التزلف البشري , كان يأتي يوميا ويقف على رأس تمثال القائد , ويذرق ذرقة كبيرة تغسل التمثال من رأسه حتى قدميه , فيتصل الحرس الجامعي بسيارة إطفاء لتأتي وتغسل التمثال , لكن ما أن تغادر السيارة , حتى يعود اللقلق ويعمل عملته من جديد , إلى أن أثار حفيظة الحرس الجامعي وحنقهم . اختبأ أحد هؤلاء الحرس في إحدى شرفات البنايات المحيطة بالتمثال , وحين جاء اللقلق , تم قنصه بسلاح قنص , وأردي قتيلا , ولكن يا للعجب , بعد نصف ساعة جاء لقلق ثاني وقام بنفس العملية  وعند قتله جاء ثالث .

          أبنائي طلبة جامعة بغداد كانوا يقفون تحت التمثال لالتقاط صور تذكارية مع التمثال المتسخ والبراءة تمسح وجوههم .. عندها أوعزت جامعة بغداد بمنع التصور تحت تمثال القائد , وأوقفت سيارة إطفاء في مكان قريب من التمثال لغسله كلما اتسخ , فقد تبين أن سربا كبيرا من اللقالق كانت تستعمله كمكان خاص , ويضع الله سره في أضعف خلقه . 

دكتوراه فخرية ثانية منحت تزلفا إلى عزت الدوري من كلية الزراعة / جامعة بغداد , كان الرجل قد ترأس حملة تشجير الحزام الأخضر حول بغداد , فمنح دكتوراه في الزراعة !!! بشرفكم هل يستحق غرس عدة شجيرات شهادة دكتوراه ؟ ما أرخص العلم .

أقوى دكتوراه فخرية شاهدتها بحياتي , كانت يوم منح معهد التاريخ العربي للدراسات العليا , شهادة الدكتوراه الفخرية في العلوم العسكرية العربية إلى علي حسن المجيد . تم منحه الدرجة في قاعة المعهد في المنصور , وكان الجو صيفا , بلغ من استهتار السيد الوزير بالدرجة الممنوحة له أنه رفض ارتداء الروب الجامعي لدقائق عند تلاوة مرسوم منح الشهادة بحجة الحر . ومن حقه أن يفعل ذلك , لأن الذي يحصل على شيء بالمجان ودون استحقاق , من حقه أن يستهين بما يحصل عليه .

يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . ولكن ماذا تفعل إذا كان عملك يتطلب منك أن تسأل ؟ متاعب المهنة أشكال وأصناف مختلفة كانت قدرا حكمني . 

في التسعينات من القرن الماضي كنت أعد وأقدم العديد من البرامج التلفزيونية في وقت واحد , أحد هذه البرامج والذي كنت أقدمه من تلفزيون العراق الثقافي هو برنامج ( رسائل جامعية ) , هناك اتصال بيني وبين كل الجامعات العراقية لمعرفة رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه فيها , التي أختار منها لتقديمها في برنامجي , نعمل لقاء مع الطالب الباحث ولقاء مع مشرفه وأعضاء لجنة مناقشته لتسليط الضوء على مادة الرسالة أو الأطروحة , بعد ذلك نصور مقاطع من جلسة المناقشة , حين نعود إلى قسم المونتاج , نربط هذه المواد لتكوين حلقة من البرنامج تعرض لاحقا .

الحق يقال , حضرت المئات من المناقشات , فيها الممتازة والتي بذل فيها الطالب جهدا مميزا , وفيها الرديء , والذي أتى الطالب إليها لنيل الدرجة ( وجاهة ) دون بذل ما تستحق من تعب . كما أني كنت حاضرة في العديد من أشكال المهاترات التي تتم لنيل الدرجة العلمية ... الطالب القوي كأن يكون مسؤولا حزبيا أو وزيرا , يجلب ( سيت ) من الدكاترة الضعاف لمناقشته , وربما يتفاهم معهم قبل دخول قاعة المناقشة , ولهذا وأنت تراقب سير المناقشة ترى الكذب والافتعال تشي به العيون .

بعض عمداء الكليات  أو رؤساء الأقسام يريدون منح زوجاتهم أو بناتهم أو أخواتهم شهادة ما فترى ذلك الشخص يجلب صديقه الصدوق ليجعله مشرفا على أطروحتها , ويجلب خله الوفي ليعينه رئيس لجنة مناقشة , أما أعضاء لجنة المناقشة فيكونون عادة من حديثي العهد بالدكاترة والباحثين عن طريق يشقونه في الحياة بواسطة تزلفهم لعميدهم أو رئيس قسمهم , وهكذا تمضي المناقشة بسلام فتحصل الست على الشهادة في مناقشة شكلها قانوني , لكنها تفتقر إلى أبسط أنواع أخلاقيات العلم .

ولى ذاك الزمان إلى غير رجعة , واستبشرنا بموشح الديموقراطية الذي يغنى لنا كل يوم خيرا , لكن يبدو أن العناوين وحدها هي التي تبدلت لأن المضامين مازالت هي .. هي , إن لم تصبح أسوأ وخذوا هذا المثال :

أولا ثبتوا لديكم هاتين الوصلتين للتأكد من مصداقية كلامي , الوصلة الأولى , مادة مكتوبة من قبل السيدة دجلة أحمد السماوي  www.kitabat.com/i30577.htm أما الوصلة الثانية فهي من موقع الأكاديمية العربية في الدانمارك وفيها تغطية خبرية لنيل السيدة دجلة شهادة الماجستير من الأكاديمية

 www.ao-academy.org/wesima_articles/index-20070728-1390.html

لو عدنا إلى الوصلة الأولى وفتحناها سنجد السيدة دجلة السماوي تتحدث عن أطروحتها بالقول (( وقد كانت اطروحتي للماجستير في الأدب الأنثوي بعامة ونقد النقد بخاصة وانتخبت الناقدة الدكتورة وجدان الصائغ ( وأنا والدتها ) ميدانا لعملي )) . عظيم جدا . السيدة دجلة تخبرنا أنها اختارت أن تكتب عن ابنتها وهذا من حقها , فمن حق الباحث الاستعانة بكل الوسائل المتاحة لتوصيله إلى هدفه البحثي .

 لكن حين نفتح الوصلة الثانية وهي صفحة من موقع الأكاديمية العربية المفتوحة في الدانمارك _ يطالعنا الخبر أن البروفسير عبد الإله الصائغ مشرف السيدة دجله هو في نفس الوقت رئيس لجنة مناقشتها , ولا تدري في هذه الحالة كيف سيكون خصما مناقشا ومفندا لرأي الطالبة والمشرف على الرسالة ؟ هل يجوز أن يكون المشرف رئيسا للجنة المناقشة في نفس الوقت ؟

فإذا عرفنا أن البروف هو زوج السيدة دجلة زاد العجب في حياديته العلمية , لكن وأنت تتصفح موقع الأكاديمية العربية المفتوحة يطالعك خبر أكثر إدهاشا هو أن البروفسير الصائغ هو رئيس قسم اللغة العربية فيها . يا رب العزة , أما كان بالإمكان اختيار دكتورين آخرين ليتولى أحدهما الإشراف على الست دجلة عند كتابة رسالتها , والثاني ليكون رئيسا للجنة مناقشتها ويكتفي زوجها بموقعه كرئيس للقسم الذي منحها الشهادة ؟ أم أن هوان العلم في هذا الزمان أباح مثل هذه الصلاحيات ؟

كتبت أيميل إلى صديق عزيز أحترم رأيه فأرسل لي ردا صعقني . قال (( هل تعرفين يا دكتورة ميسون .. أن الدكتور صبري مسلم عضو لجنة مناقشة الست دجلة السماوي , هو نسيبها زوج بنتها ونسيب زوجها البروف )) .

أفرغوا الحكاية من الأسماء والألقاب , ولننظر لها بالشكل التالي : أم تكتب رسالة ماجستير عن ابنتها بإشراف الأب , ورئاسته لجنة المناقشة التي يشترك النسيب في عضويتها .

ترى لو أن الشاعر عبد الوهاب البياتي ( واحد من مؤسسي البعث كما يدعي البروف في موسوعته البائسة ) , أو الآخر الدنغوز , أو الثالث المهموز , أو الرابع الملموز , كانوا قد تجرئوا على فعل ذلك , كيف كان البروف الصائغ سيتكلم عنهم ؟؟؟

آخر كلامي رسالة موجهة إلى الموقر الأستاذ الدكتور وليد الحيالي عميد الأكاديمية العربية المفتوحة في الدانمارك : الأستاذ الغالي من المؤكد أن الأمور مرت أو مررت عليك بشكل ما, أفتح تحقيقا في الموضوع , وأستعمل كل صلاحياتك, ليس إعلاء لمنزلة العلم وحدها , ولكن من أجل السمعة العلمية لاكاديميتكم أيضا وتقبل فائق الاحترام والتقدير

د . ميسون البياتي

artemona@gmail.com