عن زمن البعث وقائمة بأسماء والمغفلين والحمقى

 

 يظن بعض المغفلين ( أو يدّعي) أن عودة البعث إلى السلطة في العراق بوجوه بعض تأبيه وغير تأبيه لن يُدخل العراق مجدداً في نفق ظلامي رهيب ، ولن يغرقه بالدم ودوامة القتل, كما فعل الصداميون  وحزب البعث على مدى عشرات السنين !

كلما سمعت بطروحات البعثيين الإرهابيين القدامى وحلفائهم السلفيين الجدد, أو كلما طرح مغفل مصدق لتلك الكذبة العظمى ، تذكرت حكاية من حكاية جحا:

يُقال أن شهرة جحا في ظرفه وحكمته طبقت الآفاق وصارت مضرباً للأمثال مما أثار حسد الملك الذي ضاق ذرعاً ، فأراد أن يهزأ بجحا. جاء رسول إلى جحا يطلب حضوره بين يدي الملك، وعندما مثل بين يديه طلب الملك من جحا أن يعد له قائمة بأسماء كل الحمقى والمغفلين في مملكته!

بعد أيام أستأذن جحا الدخول على الملك وبيده قائمة بتلك الأسماء ، مقدماً إياها أليه. ما أن وقع نظر الملك على الأسماء حتى جن جنونه ، إذ كان أسمه على رأس القائمة ! أزبد الملك وأرعد ، وصرخ: كيف تجرؤ على إهانتي؟؟ أنا سوف.... أنا...

قاطعه جحا : لا تغضب أيها الملك  بهذه السرعة ، ودعني أوضح لك.. ألم تستقبل في الشهر الماضي تاجراً من بلاد الهند والسند؟

- نعم . أجاب الملك.

- وهل كنت تعرف هذا التاجر سابقاً ؟

- كلا ، وقد التقيته لأول مرة.

- حسناً .. أو لم تعطه ألف قطعة ذهبية من أجل أن يجلب لك جواهر في رحلته القادمة من بلاد الهند و السند ؟

- نعم .. ولكن ما علاقة هذا الأمر بالقائمة؟

- أمر بسيط .. أليس غباءاً إعطاء مثل هذه الكمية من المال لرجل لا تعرفه وقد التقيته مرة واحدة ، على أمل أن يأتيك بالجواهر  فيما بعد ؟

صفن الملك المهان وصرخ: ولكن..ماذا لو أنه عاد بالجواهر؟؟

أجاب جحا بهدوء : سأحذف أسمك في هذه الحالة وأضع أسمه !

ستكون بضاعته فاسدة ، كل من يحاول, أن يغرر بشعب, وضع أسم صدام والبعث على رأس قائمة آعتى المجرمين الذين حكموا العراق حتى اليوم . من السذاجة بمكان محاولة خداع الآخرين وتزييف الحقائق وتلميع صورة دولة الرعب تلك ، دولة الرعب التي تركت أثاراً مدمرة في العراق وفي وعي العراقيين ، مالا تمحوه الأيام بسهولة!

يتحدث رئيس حزب العمل الهولندي ( فاوتر  بوس) في كتابه "هذا البلد يمكن أن يكون أفضل بكثير" عن محاضرة ألقاها ربيع 2005 في إنجلترا باللغة الإنجليزية ، عن( التضامن) و(التكاتف) و(التلاحم) الاجتماعي . أراد ( فاوتر بوس ) أن يبدأ محاضرته بجملة من برنامج حزبه فلم يجد سوى ترجمة واحدة لتلك الكلمات في اللغة الإنجليزية Solidarity ويتساءل ( فاوتر  بوس) عن هذا الاختلاف في اللغتين الهولندية والإنجليزية هل يعكس الاختلاف بين الشعبين ، فيذكر أن لغة سكان الإسكيمو تحتوي على 30 كلمة تدل على ( الصقيع ) في حين هناك كلمة واحدة (للمطر) ! ويخلص إلى الاستنتاج بأنه كلما زاد عدد الكلمات المستخدمة في لغة للدلالة على  (شيء) محدد كلما توسعت معاني  فهم هذا (الشيء) في لغة ذلك المجتمع.*

هذا ينطبق على مجتمعنا العراقي.. لا تحفل لغة بكلمات وعبارات تدل على ( العنف والتعذيب والقتل والاغتيال والموت ) كما تحفل لغتنا العراقية المحكية ( اللهجة ) ، بل والأسوأ أنها تغتني يوماً بعد يوم ! فالعراقي وحده يفهم معنى ( طكّوه بالدهن ، طروه أربع طرات، كوموه ، انثرم ، الطايح رايح ، مفخخ ، جقوه......الخ) ولا يخفى على حصيف أن هذا انعكاس لما عاشه الشعب العراقي ( ويعيش) من رعب ، ونتيجة منطقية لما زرعته أنظمة القمع الدموي التي توالت على حكم العراق منذ عام 1963 ولغاية 2003 ، وأن كلمات العنف تناسلت وتوالدت في رحم سلطات البعث (وخاصة تحت حكم صدام) والتي تواصل بقاياها المجرمة اليوم الإرهاب والذبح  . عفلق ، مؤسس البعث وضع حجر الأساس النظري والمحرض الأول على العنف، وجاء التطبيق على أيدي بلطجية جهلة جمعهم حب التسلط والعنف والقتل بلا حدود ، مجموعة بهائمية تٌسيل رائحة الدم  لعابها . هولاء هم الأمناء على طروحات عفلقهم ، سواء من كان بالأمس بعثياً أو من نزع ورقة التوت اليوم عن ( مؤخرته) ليصبح بعثياً لا في غفلة من رفاق المعارضة أمس بل علانية . ولكان مفهوماً لو أن العنف والتصفيات الدموية شملت أعدائهم السياسيين  ، لكنها طالت أبناء العراق من أقصاه إلى منتهاه ، من عربه وكورده ، إلى قومياته وأديانه وأقلياته كافة ، بل وامتدت إلى جيرانهم على شكل حروب ، خربت بلد كان مرشحاً أن يكون ياباناً ذات يوم ، فأركعته  وأذلته لكن  ذلك لم يفت من عضد القتلة ألبعثيين في تصفية أبناء العراق.. العنف طال ألبعثيين أنفسهم في مملكة الرعب الداخلية (حزب البعث) فالناجي من كان يوقع رفاقه في فخ الموت قبل أن يُوقع به ! وليس سوى العراقي الذي عاش تحت ظل حكم صدام والبعث  من يعرف أن حزب عفلق وصدام حزب قيم ذئبية ، حزب يمثل قطيعاً جائعاً للدم ورائحة الموت ، كالذئاب تماماً ، كلما فاحت رائحة الدم كلما أوغلت الذئاب في وحشيتها وتمزيق ضحيتها. ولم ينتم لحزب البعث ويٌخلص له سوى أشد الأفراد تخلفاً ، أولئك الذين يعانون من عقد سيكولوجية رهيبة ، بحيث أن طبقات المخ الزواحفية لا تشعر باللذة دون تفجر ينابيع الدم وتناثر الأعضاء البشرية.

فالقائد (صدام) وفر كل مستلزمات الموت لأعضاء حزبه بدءاً( بالبدلة  الزيتونية) وليس انتهاء (بالمسدس والرشاش) وألغى كل قانون سوى قانونه وولديه وحاشيته ، بل وعسكر المجتمع رغم أرادته ، فصار الزيتوني في المدرسة ، وفي الحقل ، وفي المعمل والجامعة ..وحتى دور العبادة ، وإيقض مجدداً العشائرية و مشاعر الثأر والانتقام.. أنها عملية غسيل دماغ ( تاريخية) يعيش العراق آثارها اليوم ، شاهدها العنف وممارسات القتل والإرهاب الذي تقوده بقايا قطعان البعث السادية ، هذه المرة باسم الدين والطائفة وتحت عمائم ( وسدائر ) وبدلات أنيقة تخفي الزيتوني تحتها ، وباسم ما يدعى ( بالمقاومة المشروعة). هذه ( المقاومة المشروعة ) التي تستبيح الذبح – على الطريقة الإسلامية – تطلق مكبوتاتها المرضية التي لم يمارسها إنسان العصور الحجرية . فكيف يكمن للشعب العراقي أن يرضى بعودة السلطة إلى الذئاب الساديين فاقدي الحضارة ومدمري شعب وتأريخ ؟ وكيف يراد لنا أن ننسى دولة البعث العظمى في دمويتها؟

حين يقص عراقي ممارسات نظام صدام المروعة على مواطني البلدان المتحضرة يُواجه بالتشكيك أن لم يكن بالتكذيب ، لأننا كمن يتحدث عن كائنات خرافية همجية من كوكب آخر مفتعل ! ولا يعلم السامع أنك مهما حاولت نقل الصورة الحقيقية فأنك لا تفي بحقها ، وأنك لا تستطيع أن تنقل صورة جبل الجرائم المهولة التي ارتكبها حزب البعث ، ويرتكبها اليوم !

المجتمع العراقي ، وفي خمسينيات القرن الماضي ، كان قد بدأ لتوه بالخروج من عادات وتقاليد اجتماعية ودينية وقيم تخلفية أخرى ذات جذور بدوية ، وبدأ محاولات جادة لمواكبة تطور الشعوب الأخرى المتحضرة خاصة بعد ثورة تموز عام 1958، وأذ به يرزح تحت أنظمة تقوده إلى حالة من التردي لا مثيل لها منذ انقلاب الشؤم عام 1963.. ذلك العراق الذي كاد أن يصبح منارة للعلم والتطور الحضاري ، ينحدر إلى مستوى أدنى الدول الفقيرة في العالم وهو يطفو على بحار من النفط ! أما الدول المجاورة التي كانت اكثر بداوة وتخلفاً من العراق ، وفيها ما هو أسوء من العادات والتقاليد ، فقد بنت اقتصادا قوياً ، وصارت قبلة للعراقي المنكوب ! فقط لأن هذه البلدان لم تحكم من قبل بلطجي كصدام ، ولم تخض حروباً (كالقادسية وأم المهالك) فكان أن ازدهرت وترفهت شعوبها . أو ليس بلدان الخليج مثالاً ؟ هم نبذوا العنف و الغزو والاقتتال في الصحراء ، و صدام حول أرض العراق إلى ساحة قتل وحرب !

المصيبة ، أن هناك من ينسى أن ذاكرتنا لا تزال طرية ، ولا تزال تحتفظ بكل ذكريات بشاعات الأمس ( واليوم) ويريد أن يقنعنا أن (جنة صدام) خير جنة أخرجت للناس ! الأموال المهربة بعد إسقاط النظام هي التي تُخندق البعض من الذين كانوا بالأمس من صفوف المعارضة في خندق البعث ، وتجمعهم مع من  فقد بركات كوبونات النفط وعطايا صدام وعدي وقصي ، وهذه الملايين التي تهيل على هذا الخندق المجرم هي التي تزيد من وحشية أعداء الشعب العراقي..

دعنا من التنظيرات العتيقة والأيدلوجية ، ولنتحدث بلغة (أهلنا البسطاء). في زمن صدام كان الإعلام يصدعنا بالحديث عن العروبة والشرف العربي والأخلاق العربية ، في حين كانت عمليات القتل والاغتصاب تمارس يومياً في سجون النظام وبصورة ( سريالية ) لم تخطر على بال ( دالي) نفسه ! وبحق أشرف أبناء العراق وبناته ! في الوقت الذي كان الآذان يصدح خمس مرات في اليوم من أذاعا ت النظام المسموعة والمرئية ، كانت الدعارة تمارس سراً وعلناً لحساب صدام وولديه وأقطاب حكمه ، ويمارس العهر جنباً إلى جنب الدعوة الكاذبة إلى دين الإسلام ! لا التاريخ القديم ولا الحديث يذكر زمناً تم فيه اغتصاب هذا العدد من نساء العراق ، بل لم يحدث مثل هذا حتى زمن سقوط بغداد على أيدي المغول .

 

أثناء محاكمته تبجح صدام أنه بحربه مع الكويت أراد حماية نساء العراق من ( النزول إلى سوق الدعارة) ولم يتذكر أن عدي أغتصب وأذل خيرة بنات العراق وأشرافه . هناك قصة مشهورة عن رجل أطلق النار على ابنته الشابة ثم على نفسه كي لا يلحق العار بها وبه ، عندما قدم أليه زبانية عدي لاستصحاب الفتاة إلى سيدهم عدي ( الأستاذ) ليقوم باغتصابها .. ذلك البهيمة لا رحمة الله عليه! وهذه مجرد واحدة من آلاف القصص المروعة من زمن الطاغية المقبور !

في مجتمع مثل المجتمع العراقي الذي آل إلى هذا الحال لا يكون الحديث عن الديمقراطية بشكلها الغربي سوى ضرب من الخيال باعتقادي . المطلوب نزع البدلة ( الزيتونية ) والمسدس من العقل أولاً ! وهي عملية معقدة للغاية. إعادة بناء الوعي الاجتماعي يجب أن تسبق غيرها ، فهي حجر الأساس في بنية اجتماعية صحية . العمل بكل الوسائل لإعادة بناء المواطن وتطهير العقول من ادرأن الماضي ، وإيقاف عملية الغسيل المستمرة لأدمغة العراقيين من قبل فلول البعث القديمة والصداميين الجدد ، والمدعومة من أنظمة كانت تعادي صدام بالأمس وتتمنى عودته اليوم ، وهي تدعم  بكل ما تملك من طاقات الإرهاب وخاصة بوجهه الوهابي الأكثر دموية في تأريخ الإسلام . ولن يتمكن العراق من النهوض من كبوته التاريخية هذه ما لم يتم إلغاء نظام المحاصصة ألبريمري ، ولتحل محلها أن جاز التعبير محاصصة الكفاءة والإخلاص والتفاني ! المطلوب إيقاف انحدار العقل إلى درك أسفل في التمييز الطائفي ، وهذا يتطلب نظام حكم حازم يواجه العنف بعنف وقوة القانون ، لا عنف الغاب. المطلوب إلغاء عقلية مساواة حياة الإنسان ( بثمن الطلقة) الذي أبتدعه البعث لا غير.. وحين ذاك ينبغي أن يرافق ذلك عودة الأطفال إلى مدارسهم ، والطلبة إلى مقاعد دراستهم وجامعاتهم ، والأساتذة إلى علومهم والتفرغ إلى تربية أجيال ناصحة وصحيحة ، وإلغاء كل الشهادات والألقاب العلمية المزورة أو التي منحت زمن الطاغية ووزعت على أساس الانتماء لحزب البعث لا للعلم ! وينبغي أن يعود رجال الدين إلى مساجدهم وتكاياهم ومؤسساتهم الدينية لعلهم يريحون أنفسهم والخالق والبشر ، فالدين غير ممنوع عن المجتمع ، لكنه مفصول عن السياسة ولنا في بقية الأمم التي سبقتنا عبرة. ينبغي إعادة الهيبة لقوانين إنسانية تحترم الإنسان وتلغي قوانين العنف والعشيرة والجاهلية التي أدخلنا البعث في متاهاتها مجدداً. إعادة هيبة القانون تسبق هيبة الشرطي ، وتعني احترام المثل العليا الإنسانية والدينية ، وتعني إيقاف القتل على الاسم  والهوية الطائفة . وتفعيل المحاكم والقضاء المستقل تماماً ، ليحكم ويحاكم دون تمييز ،قضية لا تقبل التأجيل ، وهذا يعني مثول ألبعثيين أمام القضاء والتمييز بين أولئك الملطخة أياديهم بالدماء وأولئك الذين أكرهوا عنوة على الانتماء إلى حزب البعث ولم يرتكبوا جرائم بحق أحد ، والعمل على سحب أي سلطة وسلاح من المليشيات والقبضايات التي تحمل قوائم التصفيات بيديها ، فقد ملٌَّ الشعب العراقي من جرائم ما كان يسمى بالحرس القومي وبعده الجيش الشعبي ، وتعب اليوم من مليشيات الطوائف والتفخيخ !

أن البلد آيل إلى خراب ما لم يتم الضرب بيد من حديد (حديدها القانون) كل من يمد العون للإرهاب والقتلة دون مجاملة ووجل سواء أكانت تلك أحزاب أو مليشيات تختار أن تُسمى سنية ، أو شيعية ، يراد من ذلك تعميق الفرقة .

من سيكون بمقدوره في ظل هذا الوضع المتشابك ، أن يعيد الهيبة للمؤسسات العلمية والتربوية والثقافية وألادبية ؟ من سيعيد لهذه الدولة ( التي توشك على النوء بحملها وحمل الماضي وحمل المحتل)  عقلها ؟ لتناط المسؤولية بذوي الكفاءة لا( بذوي) الطائفة ؟ لتناط لا بمن لبس ألسدارة أو العمامة أو البدلة الزيتونية (في وعيه ) هؤلاء الذين جاءت بهم صدفة واحتلال ومحاصصة !

ليعد شيخ العشيرة إلى عشيرته ، وأبناءه ، وليعد المعمم إلى جامعه شيخ دين شيعي أو سني ، ولتٌترك هذه الأمة ليقودها من هو كفء لها ، و لتمنع عودة البعث والزيتوني والمسدس ، ولتصلح ما أفسده الدهر الصدامي ، ليعيش الشعب بأمن وأمان ، فيتم اجتثاث جذور القتلة ، والدنيا لأهلها والدين لرجال الدين.

د. ميثم محمد علي موسى

 

*ص 84 -85 من كتاب "هذا البلد يمكن أن يكون أفضل بكثير"