أقـنعة الفاشـية الخفيــة.... ومستقبل العـراق

 

بدءا أود التوضيح بأن الفاشية في العراق لم تسقط ولم تذهب إلى الأبد بمجرد قرار الأميركيان بحل الجيش العراقي وأجهزة المخابرات ووزارة الإعلام وبإصدار قرار اجتثاث البعث، أو بإلقاء القبض على صدام حسين وبقية طاقم حكمه ثم إعدامه.

صحيح أن هذه الأجهزة كانت هي الوجه الأبرز والبشع للدولة الفاشية في العراق، وان إلقاء القبض على قيادة السلطة الفاشية هي الضربة القاضية التي حطمت هذه الدولة، لكنها بالتأكيد لا تعني زوال الفاشية من العراق، من حيث أن الفاشية حكمت العراق لمدة خمس وثلاثين عاما، وطوال هذا الوقت هيمنت أيديولوجيتها على المجتمع العراقي، أي أنها ولأكثر من جيل كان تسمم الإنسان العراقي، ليل نهار، بفكرها الفئوي العنصري الشوفيني المريض.

سأعتمد هنا على طروحات المفكر الفرنسي ( نيكوس بولنتزاس) الذي كان من أهم المفكرين الذين تفحصوا آلية الدولة الفاشية وعملها البوليسي في العديد من أعماله وبحوثه، والتي أهمها كتابه (الفاشية والدكتاتورية) الذي قامت نهلة الشهال في العام 1979 بترجمة القسم الخامس منه فقط فصدر في بيروت في كتيب بعنوان (الأيديولوجية والسلطة، نموذج الدولة الفاشية ). وفي هذا الكتاب يؤكد (بولنتزاس) بأن( أجهزة الدولة الأيديولوجية في الدولة الفاشية تقدم في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها بجهاز الدولة، شكلا ودرجة من الاستقلال الذاتي النسبي الذي لا تملكه فروع جهاز الدولة. إن جهاز الدولة القمعي، النواة المركزية لنظام الدولة وسلطتها، يمتلك وحدة داخلية أقوى واشد صرامة مما تمتلك الأجهزة الإيديولوجية......ولن يجري (تحطيم) الأجهزة الإيديولوجية بالوقت نفسه وبالطريقة ذاتها التي ستجري بها (تحطيم) جهاز الدولة، كما أن تحطيم كل من الأجهزة الإيديولوجية لن يجري بأسلوب وزمن متماثل..)

والمقصود هنا بالأجهزة الإيديولوجية هي الهياكل الأساسية الثلاثة: الحزب الواحد الأوحد ونقاباته العمالية وجمعياته الفلاحية وتنظيماته الطلابية والنسائية والرياضية والمدارس والجامعات، ثم تأتي العائلة، التي أصبحت إحدى القطع المركزية في أجهزة الدولة الإيديولوجية، ثم أجهزة الإعلام والدعاية من صحافة، تلفزيون، راديو، نشر كتب، حملات توعية، مؤتمرات ثقافية وشعرية وفنية كالمربد وبابل وغيرها. ولو تفحصنا هذه الأشكال من الأجهزة الإيديولوجية لوجدنا أن الدولة البوليسية صارت تتدخل حتى في أحلام مواطنيها وكوابيسهم، وفي قصائد الشعراء .

لقد جرى على مدى العقدين الأخيرين، وفي المنفى، تفحص نسبي للطبيعة الفاشية لدولة البعث في العراق، ولأيديولوجيتها، وما يسمى بثقافتها، على يد نخبة قليلة من المثقفين والأدباء العراقيين أمثال فالح عبد الجبار، علي الهاشمي، زهير الجزائري، شاكر لعيبي، سلام عبود، وغيرهم، وقد لعب الحزب الشيوعي العراقي ،لا سيما بعد انفراط الجبهة الوطنية وخروج قياداته إلى المنفى،الدور الأبرز في تسليط الضوء على فاشية النظام العراقي، رغم أن الشعب العراقي ككل كان يعرف البعثيين من خلال تاريخهم الدموي إثر انقلاب شباط 1963، وسياسيا كانت هناك طروحات وتشخيصات فكرية لتنظيم القيادة المركزية وبعض المثقفين التروتسكيين حول طبيعة البعث كفكر قومي شوفيني، عنصري منغلق، بل حتى المنظمات الديمقراطية التي كانت الواجهات الديمقراطية التاريخية للحزب الشيوعي، كالاتحاد العام لطلبة العراق، ورابطة المرأة العراقية، واتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي، تقدمت بمثل هذه الطروحات لا سيما أثناء النقاشات الحادة التي كانت تدور حول الجبهة الوطنية، وقرار تجميد هذه المنظمات (1973)..! ومن يعرف تلك الفترة سياسيا جيدا يستذكر كيف أن الاعتراضات على هذه الجبهة داخل الحزب وعند جماهير الشعب كانت اكبر وأقوى من كل التحليلات التي روج لها المرحوم عامر عبد الله وباقر إبراهيم ومكرم الطالباني وغيرهم في قيادة الحزب الشيوعي..

وللتاريخ نذكر أن استخدام مصطلح (الفاشية) في توصيف حزب البعث والدولة العراقية، لم يكن أمرا عابرا ولفظا سياسيا سهلا يطلق كشتيمة ومبالغة سياسية دعائية ضد عدو سياسي، بل كان مثار جدل واسع بين المثقفين الديموقراطيين العراقيين،إذ كان السؤال المطروح هو: هل تنطبق المواصفات والتعريفات التي قدمها الفكر الماركسي، والرسمي منه بالتحديد، لا سيما تعريفات (ديمتروف) و( تولياتي) للفاشية، على الواقع العراقي؟؟ وقد جاء ترجمة كتاب (الإيديولوجية والسلطة) الأنف الذكر من قبل (نهلة الشهال) في تلك الفترة بالتحديد كجزء من جو النقاش الحامي، حيث شهدت هي أيضا جانبا من نقاشات المثقفين والمناضلين العراقيين في بيروت، واجتراحات الأدباء والفنانين العراقيين في توصيف طبيعة الدولة العراقية، لا سيما بعد صعود صدام حسين إلى رئاسة الدولة..!

 

إن مثل هذه النقاشات كانت غائبة عن المثقفين العراقيين في الداخل، بل حتى الجيل الذي خرج بعد حرب الخليج الثانية في بداية التسعينيات لم يشغل حاله بمثل هذا الأمر..وكلما كانت السنين تمر، وتطول رحلة المنفى، كلما كان التراخي يدب في مفاصل الجبهة الثقافية والفكرية التي خرجت نهاية السبعينيات إلى المنفى، بل وكلما كان عدد المهاجرين من العراق يزداد، لاسيما والكثير منهم خرج ليس لأسباب سياسية وإنما اقتصادية، أو حتى كجواسيس للنظام من أجل شق وحدة المعارضة في الخارج، كلما صار للبحث والتفحص الفكري الرصين صعوبات مضاعفة..

لقد كان التوقيع على الجبهة الوطنية ما بين الحزب الشيوعي وحزب البعث، والإقرار لهم بقيادة المجتمع والسلطة السياسية هو الانتصار الأبرز للفاشية في العراق، فتحت ظل هذه الجبهة تمت تصفية الحركة التحررية الكوردية، واجتراح مذبحة ( قلعة دزة) التي لا تقل عن مذبحة حلبجة، حيث طوقت دبابات الجيش العراقي منطقة (قلعةدزة) من جميع الجهات مطلع فجر عراقي، وانهالت عليها بالصواريخ من كل الجهات ثم هجمت عليها فدمرتها، واختلطت أجساد الناس مع التراب، بل صار يهرس من خلال (جنزير) دبابات الجيش العراقي ( البطل)..، وتحت مظلة الجبهة الوطنية تمت تصفية الحركة الدينية الإسلامية وبالتحديد (حزب الدعوة) وانصار المرجعية، بل وحتى عندما كان الشيوعيون يحرسون المناطق السكنية إلى جنب البعثيين في تلك الفترة، تمت تصفية الشيوعيون العسكريين وإعدامهم.

إن الخراب الذي مس بنية الشعب العراقي، وتغلغل في الشخصية العراقية تحت تأثير الدولة الفاشية على مدى ثلاثة عقود ونصف لن يزول بقرار حل حزب البعث وتفكيك أجهزة المخابرات وأجهزة الإعلام، ولا يشفى بالنوايا الطيبة، ولا بالشعارات عن الخلاص والحرية، وإنما يحتاج إلى فترة طويلة من تفكيك البنى والمرتكزات التي قامت عليها السلطة الفاشية.

أن حل النقابات العمالية والمهنية، وحل الاتحاد الوطني لطلبة العراق، واتحاد النساء، لا يعني أن إيديولوجية النظام قد دمرت وتحطمت، وإنما تم تحطيم الهياكل التي كانت قائمة، إما الذين كانوا يشغلونها ويمارسون السلطة من خلالها، فهم طلقاء، بل أن معظمهم تغلغل في الأحزاب الأخرى، مستترا، لاسيما وان بعض الأحزاب تبحث عن أعضاء وجماهير لها.. أي أن البعثيين خرجوا من الباب لكنهم بدءوا يدخلون من الشباك!

ولنتوقف عند الجامعات العراقية، فهي على مدى ثلاثة عقود كانت مصنعا لإنتاج الفكر القومي المنغلق على نفسه، وكانت في فعالياتها الأكاديمية بوقا للفكر الفاشي، وليس غريبا أن يكون (معظم) أكاديمي هذه الجامعات من (نخبة) البعث الفكرية، الذين حصلوا على أعلى الشهادات في بحوثهم الأكاديمية حول (نظرية العمل البعثية)، و( الفكر الإداري في خطابات الرئيس القائد)، و (علم الجمال البعثي)، وكل الإضافات الفكرية الجبارة التي قدمها (القائد الضرورة) للفكر العالمي..بل أن الكثير من هؤلاء الأكاديميين أنفقوا الوقت الثمين من أجل تزوير تاريخ العراق القديم..، حتى أن بعض المؤرخين أصابهم التلوث وهاجس الخوف فتنكروا لكل تاريخهم الأكاديمي والعلمي المشرف حينما خرجوا علينا باستنتاجات غاية في التفاهة والتزوير والسذاجة، حينما صار السومريون عربا، والأكديون عربا، والبابليون عربا، وصار حمورابي عربيا، ونبوخذنصر عربيا، وسرجون الأكدي عربيا، وآشوربانيبال عربيا، وصلاح الدين الايوبي عربيا، وإبراهيم الخليل عربيا، وصدام حسين من سلالة الأمام علي بن أبى طالب ..كيف لا وان الفكر الذي كان يهيمن على العراق هو فكر يسترشد بالمعتوه خير الله طلفاح الذي اصدر سلسلة كتبه الشهيرة التي كانت تدرس في الجامعات العراقية وفي أقسامها السياسية والتي تتقدمها مقولته الشهيرة ( ثلاثة كان على الله أن لا يخلقهم: الفرس واليهود والذباب) ..!

هذه الجامعات التي كانت حكرا على البعثيين، لم تكتف بتخريب الطلبة، وإنما منعت دراسة وبحث إي فكر آخر، بل ومنعت تداول ودراسة الكثير من الأسماء الأدبية والفكرية العراقية لمجرد أنها يسارية أو غير بعثية، أو غير عربية، أو ذات تجربة سياسية سابقة على البعث، فقد كان الفكر والسياسة والحرية والديمقراطية، بل التاريخ والجغرافيا، كل ذلك يبدأ مع البعثين ومع مجيئهم إلى السلطة وينتهي بهم، فهم البدء والختام..، فقد كان من المحرمات الحديث عن تاريخ الوزارات العراقية والحياة البرلمانية في العراق في الفترة الملكية مثلا، وعن حرية الإضراب، وعن تغير الوزارات العراقية نتيجة الإضرابات، وعن بساطة العائلة المالكة، وعن برنامجها لتحديث العراق، أو الحديث عن ثورة الرابع عشر من تموز وقادتها، أو ذكر قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان من المحرمات الحديث عن مؤلفات المفكر محمد باقر الصدر ومناقشتها، ويمكننا ببساطة أن نستشف طبيعة العقلية التي كانت تهيمن على مراكز البحوث والدراسات في الجامعات العراقية حينما نسترجع عناوين الاطاريح الجامعية أو عناوين المؤتمرات العلمية والأكاديمية التي كانت تُعقد في تلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق .

إن إصلاح التعليم الجامعي في العراق يُعد من أهم المهمات التي تنتظر المجتمع العراقي كي يتخلص من هذا الفكر المقيت، وهذا لن يتم باجراءت إدارية سطحية وبتغيير الوجوه، وإنما بإعادة النظر بكل المناهج وبأساليب التعليم والنظريات التي تدرس، وبالتفاصيل الإدارية لتيسير الحياة الجامعية، لا ولن يتم باستبدال فكري قومي منغلق ومتعصب بفكر ديني منغلق ومتعصب، بل الانفتاح على الثقافة الإنسانية والاستفادة القصوى من التطور الحضاري الحالي للبشرية.

د. برهان شاوي

25/09/2007