مأزق المثقفين والليبراليين في العراق

 

لا نريد هنا أن نبسط الأمور ونطلق الحكم الشائع بأن ما يجري من صراع في العراق اليوم هو صراع بين التوجه العلماني ،الديموقراطي، المدني، وبين التوجه الأصولي الديني،الطائفي،المذهبي، القومي المتعصب فقط، فالمشهد السياسي في العراق اليوم أعقد من ذلك، فهو إلى جانب هذا الصراع الواضح، هو صراع بين الكتل الدينية الطائفية من جهة وبين الكتل التي تمثل الطائفة الواحدة من جهة أخرى، بل وداخل التنظيم الواحد أيضا سواء كان علمانيا أم  متمسكا بالأيديولوجية الدينية، صراع بين طبقات طفيلية جديدة ناشئة وطبقات في طفيلية حزبية في طور الاضمحلال، صراع بين رأس مال عراقي داخلي مجمد ورأس مال عراقي خارجي مجمد، وبين هذان الراسمالان ورأس المال الأجنبي المترقب والمتلهف والكاسح، صراع بين ذاكرة سياسية عراقية عريقة لكن حضورها الفعلي على الساحة متواضع وغير مؤثر وحضور سياسي فاعل ومؤثر لكنه بلا جذور ولا ذاكرة ولا ضفاف بل وبدون خبرة، وأخيرا وليس أخرا هو صراع بين أجيال من السياسيين يأخذ شكل صراع داخل وخارج وصراع عمري له علاقة بالتجربة والخبرة السياسية.

مــا العمــل ؟؟

ربما هذا العنوان الفرعي سيدفع بعض السياسيين إلى استذكار كتاب قائد الثورة الروسية فلاديمير إيليش لينين الشهير( ما العمـل؟)، رغم أن لينين أخذ هذا العنوان من رواية لأديب روسي عاش في منتصف القرن التاسع عشر، وأنا أطرحه كسؤال بعيدا عن التداعيات التاريخية للعنوان..! ما هو موقف المثقف العراقي الديموقراطي الحر من هذا الصراع التاريخي والمصيري بالنسبة للعراق..؟ وما العمل؟

في الكثير من الأدبيات الخاصة بعلم الاجتماع والسياسة، لا سيما تلك الأدبيات التي ناقشت مفهوم الدولة ومفهوم ( المجتمع المدني)، نجد أن أهم خلاف تاريخي سياسي وقع بهذا الصدد هو الانشقاق الذي جرى في الحركة الثورية العالمية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي الربع الأول من القرن العشرين، بين الجناحين الشيوعي والاشتراكي الديموقراطي..!

صحيح أن بعض الماركسيين يسعون إلى تجديد الماركسية، وإعادة الاعتبار لبعض مفاهيمها، وتصويب بعض تحليلاتها، بالادعاء بأن (ماركس) عند نقده لفلسفة (هيجل) ناقش مفهوم  (المجتمع المدني)، إلا أن البحث النظري في كلاسيكيات الماركسية، مثل كتاب (اصل العائلة والملكية والدولة) لفريدريك أنجلز وكتاب ( الدولة والثورة) لفلاديمير لينين، بل وحتى ( البيان الشيوعي) لماركس وانجلز يضيق على مثل هذا الادعاء، رغم انه يحيلنا إلى تحليلات( لويس آلتوسر) في سعيه ل( قراءة ماركس) الشاب ، علما أننا نجد عند ( انتونيو غرامشي) مناقشات ثاقبة وعميقة لمفهوم الدولة والمجتمع المدني تثير الإعجاب، قياسا لجبال التنظير الغوغائي للماركسية اللينيية طوال عقود من هيمنة الشيوعيين على السلطة في بلدانهم.

لقد كانت الماركسية تنظر إلى (الدولة) نظرة أحادية باعتبارها أداة للهيمنة الطبقية و(أداة للقمع والاستبداد) فقط، وهكذا تمت تربية الملايين من الشيوعيين والمثقفين ورجال الفكر اليساريين، علما أن ماركس (الشاب) درس الدولة من جانبيها، أولا من جانب مضمونها (الطبقي) باعتبارها المؤسسة التي (تقنن) و(تشرعن) سيادة طبقة على أخرى، وثانيا من جانب علاقتها بالمجتمع، أي من جانب (تشكيلات المجتمع المدني) المتداخلة في البناء الفوقي للمجتمع، أي أن الدولة من جهة اعتبارها (جهاز قمع سياسي)، ومن جهة أخرى باعتبارها (مؤسسة مجتمع مدني)، لكن هذه الشذرات في فكر (ماركس) لم تتطور في الأدبيات الماركسية فيما بعد، إنما صار التركيز على جانب واحد من مفهوم الدولة، وهذا ما جرّ إلى كوارث إنسانية في المجتمعات التي حكمها الشيوعيون. بينما على الضد من ذلك، انتبه الاشتراكيون الديمقراطيون إلى الجانب الثاني من الدولة، أي إلى كونها حاضنة ل(مؤسسات المجتمع المدني) وناضلوا من اجلها، وحققوا من الديموقراطية، ومن المكاسب للطبقة العاملة وللشرائح الاجتماعية الأخرى ما لم تحققه الأحزاب الشيوعية لها، رغم أنها كانت تصف الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية بمطية الإمبريالية وخدم البرجوازية..!!

هذا الموقف من الدولة والمجتمع المدني في التاريخ السياسي العالمي يعيد الاعتبار للسؤال عن موقف (المثقف) من الدولة ومن مؤسسات المجتمع المدني في تاريخنا المعاصر، ولو سحبنا هذا السؤال إلى الساحة العراقية اليوم، وبعد سقوط الدكتاتورية البعثية، لوجدنا غياب دور( المثقف)، في الصراع الاجتماعي والسياسي العراقي، كان نتيجة لهيمنة الفهم الأول للدولة على الفكر السياسي التقدمي في العراق، بحيث انتهى الأمر إلى فصل (المعرفة) عن (السياسة) و(الفكر) عن (الواقع) ، وتعطيل (الطاقة النقدية) عند المثقف ، وتحويله إلى رمز أجوف، شكل بلا مضمون، مما سهل الأمر إلى بيعه وشرائه، والى تسهيل ظهور نموذج (المثقف المرتزق)، الانتهازي، اللاعب على حبال الصراعات السياسية وإنكسارات الأجنحة الحزبية، مما أدى إلى إعادة إنتاج (ثقافة الاستبداد)، وهذا ما انعكس على علاقة (السياسي) ب(المثقف)، وبالتالي علاقة السياسي بالثقافة والفكر عموما.

أس المشكل السياسي في العراق اليوم هو أن القوى السياسية التي تحكم العراق اليوم، بكل أصنافها وألوانها وحجمها وقيمتها الاجتماعية والتاريخية،لا تستطيع أن تتخلى عن فهم (الدولة) باعتبارها (جهازا للقمع والهيمنة)، فمع أول بادرة لها في حرية ممارسة السلطة نجدها تمارس (الاستبداد) و(القمع الفكري) من خلال الاستهانة بمفهوم الدولة باعتبارها (الهيكل الحاضن لتشكيلات المجتمع المدني)، وليس هذا بغريب، فان هذه القوى التي ترعرعت في ظل (ثقافة الاستبداد) لا يمكنها إلا أن تمارس السياسة من خلال هذه الثقافة، فما العمل؟

إن ما نراه اليوم من تشوه سياسي في المجتمع العراقي ليس هو نتاج لفكر البعث القومي العنصري المتخلف وحده، وإنما هو نتاج استبداد وقمع عاشه الإنسان العراقي منذ قرون، فلقد تغلغل هذا التشويه إلى أعمق أعماق الشخصية العراقية، وهو ليس بغريب ولا بعيد عن كل الأورام والتشويهات الفكرية والأخلاقية والنفسية التي تعانيها شعوب منطقتنا العربية والإسلامية والشرق أوسطية، وهو نتاج الفهم الأحادي لطبيعة الدولة، والذي يرتبط في منطقتنا بقضية اعقد هي (علاقة الدين بالدولة)، بدءا من فتح مكة ودولة الخلافة الراشدية مرورا بدولة بني أمية القمعية والعباسيين وملوك الطوائف وانتهاء بفكر البعث ودولته الدموية، وبالأنظمة في بقية البلاد العربية والإسلامية الأخرى.

إن الكثير من المثقفين الديموقراطيين والليبراليين العراقيين الذين وجدوا أنفسهم، في ميدان الصراع الفكري، يصطفون اليوم ، وللأسف، إلى جانب القوى التي تلغي مفهوم المجتمع المدني، مؤكدين على انحيازهم (الأيديولوجي) باعتبار الدولة (أداة للقمع والقهر الطبقي)، شاعرين بالارتباك من انحيازهم الصريح إلى المجتمع المدني، لكنهم من جهة أخرى يجدون أنفسهم مرعوبين أمام هذا الزحف الديني (المنظم) فارتد بعضهم إلى نفسه، وانزوى آخرون في صوامعهم، وتركت فئة ثالثة الخيط لتطير به الزرازير في غبش الفجر العراقي، وصمت آخرون، إلا جمهرة قليلة من المثقفين العراقيين الذين تصدوا لمثل هذا الأمر، لكنها تبقى جمهرة ضعيفة لا تستطيع أن تحسم النبرة العالية في الجوقة الثقافية العراقية، مما أتاح إلى بعض (مثقفي) النظام بالإطلالة على الواقع الجديد كما (القفنفذ) ليرى ماذا يجري في الساحة، مستفيدين من هذا الوهن الذي أصاب جسد الثقافة العراقية، ليمسكوا بالراية الثقافية والإعلامية لقيادة الثقافة العراقية؟

إنه لمأزق حقيقي أمام المثقفين التقدميين والقوى الديمقراطية العراقية، من حيث إن (الاستبداد) لا ينتج إلا (الاستبداد)، و(ثقافة التخلف والتجهيل والأمية) لا تنتج إلا (التخلف والأمية)، ومن السهل علينا أن نتحدث قائلين بطريقة إنشائية بأنه ليس أمام القوى الخيرة والمدافعة عن عراق الغد، إلا أن تناضل من أجل نشر مفاهيم المجتمع المدني والدفاع عن حقوق الإنسان، والنضال من أجل إقامة المجتمع المدني، وليس أمامها سوى أن تأخذ دورها الحقيقي، الفكري، التنويري، وان تمارس (معرفتها) على الواقع العراقي، وأن لا تتردد في التوقف النقدي الرصين عند الطارئين على المشهد الثقافي والفكري من الفاسدين والمأجورين وأشباه المثقفين ومن الكتاب الحزبيين، وأن تنحاز للمعرفة الإنسانية الرحبة، فأن الموقف الحقيقي والأساس للمثقف، لأي مثقف، في أي زمان ومكان، هو الموقف من السلطة، والشجاعة عند التجذر في أرض الفكر الخلاق، لكن أنى لها ذلك والليل بهيم وكل البقرات فيه سوداوات؟

د. بُرهان شاوي