المثقف والضمير !!!

 

تحت هذا العنوان عنوان كتب الفنان قاسم حول, في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة ( رسالة العراق) الصادرة عن أعلام الحزب الشيوعي العراقي, تعليقا تركز حول الموقف من المثقفين داخل الوطن الذين ( هربنا وتركناهم وحدهم في مواجهة الفاشية) على حد تعبير الفنان حول بالحرف الواحد.

الفنان حول, وفي سياق استعادة, الوقائع الملحمية لاستشهاد سلام عادل, وفي مطبوع يصدره الحزب الشيوعي, جر عواطف القارئ , وخاصة وسط المثقفين الشيوعيين , للتعاطف مع الصحفيين والكتاب داخل الوطن, من منطلق صعوبة مطالبة جميع الناس, امتلاك قدرة سلام عادل على الصمود أولا, وعلى أساس (هروبنا إلى الخارج) ثانيا إضافة إلى أن هولاء المثقفين في الداخل ثالثا,  لا يتحملون وزر (أضافت السطور والمقدمات التي تشيد بالقائد صدام إلى كتاباتهم )فبل أن يختم الفنان حول التعليق, بالحديث عن النهاية المأساوية, لأحمد فياض المفرجي, ليدعونا في الأخير إلى نحكم ضمائرنا قبل أن نصدر أحكامنا الجائرة بحق المثقفين في الداخل!

و..........هذه (المقولة) عن ( هروبنا من الوطن) وحكاية ( ترك مثقفي الداخل خطية لوحدهم) في مواجهة عسف الدكتاتورية, تكاد أن تكون, مع اختلاف المنطلقات بالتأكيد, نسخة طبق الأصل عن العديد من الكتابات, التي راح يسطرها (المثقفون ) من مرتزقة نظام صدام, ممن تم شحنهم إلى الخارج, خلال ألا عوام الأخيرة, في إطار ما أطلقت عليه صحافة عدي ( معركة كسب المغتربين )!! و.............كما لو أن أكثر من 500 مثقف عراقي, غادروا العراق في أواخر السبعينيات, إنما فعلوا ذلك من قبيل البطر, أو لدوافع سياحية وليس جراء الهجمة البربرية للنظام ضد كل من رفض المساومة على مبادئه ومواقفه في مواجهة التعسف الفاشي, أو كما لو أن هولاء المثقفين الذين (هربوا) كانوا في الحفظ والصون, ولا تطاردهم مخابرات صدام بكوا تم الصوت في الخارج, مع تشديد وممارسة ابشع أشكال الانتقام ضد عوائلهم في الوطن, والكثير ...الكثير مما يعرفه بالتأكيد, الفنان قاسم حول, بحكم موقعه في قيادة رابطة الصحفيين والكتاب العراقيين لسنوات طويلة خلال عقد الثمانينيات.

قبل مناقشة ما تقدم من الاعتقاد, دعونا نتساءل أول,ا عن سبب اختيار أحد مطبوعات الحزب الشيوعي العراقي, مكانا لنشر هذه التعليق بالذات, بدلا عن صحيفة ( الوفاق الوطني) حيث اعتاد قاسم حول نشر تعليقاته, بحكم عمله مع جماعة صلاح عمر العلي التكريتي ؟!

هل أن ذلك يعود مثلا - نقول مثلا!- إلى اعتقاده أن هناك بين زملائه في (الوفاق) بعض الذين ,يمكن أن يكونوا قد ساهموا بهذا الشكل أو ذاك, في عمليات التعذيب التي طالت الشهيد سلام عادل وعشرات الألوف من العراقيين الشرفاء, من ضحايا قطار العصابة البعثية ذو العجلات الأمريكية عام 63 ؟!

الفنان قاسم حول, ومن خلال استعراض الوقائع الملحمية, لاستشهاد سلام عادل, يطرح تساؤلات تكاد توحي, كما لو أن صمود سلام عادل البطولي في مواجهة التعذيب, يشكل حالة نادرة, وبالتالي غير قابلة للمقارنة, متجاهلا آلاف الشهداء العراقيين, الذين دافعوا حتى الرمق الأخير, عن معتقداتهم الفكرية بكل بسالة وشجاعة .

و............الأمر حتى لا يدوخ العزيز قاسم حول, أبسط بكثير مما يتصور, لان الصمود قضية شخصية بالأساس, على حد الإيجاز الرائع لفوشيك في ( تحت أعواد المشانق), والإنسان المناضل ضد الظلم والعسف, ومهما كانت طبيعة أفكاره ومستوى وعيه, حين يصير في مواجهة الجلاد, يدافع قبل كل شيء عن شرفه الشخصي, وعلى عاتقه وحده ,تقع مهمة الاختيار , أما الصمود والدفاع عن قناعا ته, حتى النهاية, أو السقوط والاستسلام , وبالعراقي الفصيح أما أن يقبل( أن تنكسر عينه) أو أن يظل (رأسه مرفوعا) حتى النهاية, و......أدعو الفنان حول للعودة مجددا إلى قصيد براءة لمظفر النواب وكتابات علي الوردي حول طبيعة المجتمع العراقي للدخول في تفاصيل ما أريد قوله حول كسر العين !

بالتأكيد أن عمق الأيمان بالقضية, التي يدافع الإنسان عنها , وحرصه المبدئي, على عدم التسبب في تحميل رفاق دربه تبعات سقوطه, تفسر مستوى التباين في القدرة على الصمود بين إنسان وأخر ,ولكن احترام النفس, يشكل العامل الحاسم في صمود الإنسان, وقدرته على الدفاع عن قناعا ته, على النحو الذي جسده الصمود الرائع لسلام عادل وباقر الصدر والقافلة الطويلة من العراقيين الشرفاء, الذين تحملوا كل صنوف العذاب البربري وفضلوا الموت على أن يكسر الجلاد عيونهم ! و.............بدليل أن هناك, من لديهم استعداد ذاتي للانهيار, حتى بدون مواجهة الجلاد, كما هو الحال مع العديد من (المثقفين) الذين أعلنوا براءتهم من ماضيهم النضالي, وعلى نحو لا تفعله حتى العواهر, رغم وجودهم خارج الوطن, وبعيدا بعيدا جدا عن صدام وإرهابه الدموي, إلا إذا هناك من لا يجد حرجا, من الحديث عن الغربة وإشكالياتها, لتبرير سقوطهم وتحولهم إلى تجار ثقافة, على استعداد لوضع مؤخر اتهم, لمن يدفع اكثر, وعلى النحو الذي توقف عنده مطولا الشاعر سلام صادق وفي ذات العدد من رسالة العراق؟!

ومع كل ما تقدم, دعونا نجاري العزيز حول , الذي لا يساورنا أدنى شك في نضاله من ( اجل عراق ديمقراطي لا يقتل الناس فيه جراء أفكارهم ومعتقداتهم) فيما حاول بلوغه من الهدف, عبر حديثه عن (المثقفين الخطية) الذين تركناهم لوحدهم في مواجهة النظام الفاشي!

يشير الكاتب في سطوره, إلى وجود أصوات دعت في دمشق قبل بضعة سنوات, إلى إدانة مثقفي الداخل, وذلك منطلقا لطرح وجهة نظره الداعية, إلى أن نحكم ضمائرنا قبل أن نصدر أحكامنا الجائرة بحق المثقفين في الداخل!

و.........رغم غرابة حكاية العودة, لمناقشة تلك (الدعوات) بعد كل هذه السنوات, فأن ما طرحه العزيز قاسم حول, لا يتطابق للأسف الشديد مع الوقائع , إذ أن تلك الدعوات كانت تنحصر بالأساس, إلى ضرورة مبادرة رابطة الكتاب والمثقفين العراقيين, إدانة مواقف بعض  (المثقفين) في الداخل, من شاكلة يوسف الصابغ وعبد الرزاق واحد ..الخ ممن جندوا أقلامهم, للإساءة إلى قوى المعارض,ة وغالوا في إسفافهم في تمجيد الطاغية وحروبه القذرة.

لا أحد على حد علمي, طالب أو كتب, داعيا إلى إدانة مثقفي الداخل, أو حملهم ما هو فوق طاقتهم, أو تجاهل ظروف معاناتهم , أو لم يتطلع بتقدير, إلى محاولات بعضهم, تمرير ما يمكن تمر يره, للتعبير عن الاحتجاج ضد نظام العفالقة, ولو بصورة رمزية, أو تغافل عن الإشادة, بأولئك المثقفين البواسل, الذين رفضوا المساومة على شرفهم, وضحوا بحياتهم, جراء إصرارهم على تحدي النظام دون خشية من جبروته وسفالة مرتزقته .

السؤال الذي نأمل مخلصين, أن يرد عليه الفنان قاسم حول: هل أن الغالبية العظمى, ممن ارتضوا العمل في خدمة الماكنة الدعائية للنظام, باشروا القيام بمهامهم القذرة على هذا الصعيد, بعد أن ( تركناهم خطية) لوحدهم في مواجهة النظام, كما يحاول الفنان حول والعديد سواه إقناعنا بذلك؟! ترى لو كان الأمر كذلك, ما الذي دعا أذن الشهيد أبو كاطع, إلى أن يطلق صرخته المدوية عن ( الهافي والمتعافي) في مطلع عام 74 في (طريق الشعب) أي بعد شهور معدودة من بدء مسيرة السير مع السفلة البعثيين صوب…الخ!!

الفنان حول وبحكم هروبه ( طالما أنه يفضل استخدام هذه المفردة!) إلى خارج الوطن في تلك الأثناء, قد لا يعرف تفاصيل السبب, الذي دعا أبو كاطع, لإطلاق صرخته المدوية تلك, والتي كانت بتقديري, إشارة مبكرة ولأتقبل الغلط ,على المصير الأسود ,الذي سينتهي أليه التحالف مع حزب العفالقة, ولكن بمقدوره الحصول على المطلوب من الإجابة من ( الهافي ) الذي أن انتقل هو الأخر إلى صفوف المعارضة , وإذا تعذر عليه الأمر لهذا السبب أو ذاك, فأن بإمكانه معرفة جميع التفاصيل المتعلقة بهذه الواقعة, من خلال أحد أقرب الناس أليه حاليا في هولندا, (رغم انشغالا ته بالكتابة عن العشاير والطفولة الحائرة ..الخ )!والذي كان في الواقع العقل المدبر لعملية أبعاد الصحفيين الشيوعيين من مجلة الإذاعة والتلفزيون, هذه المجلة التي كان ( المتعافي) محمد سعيد الصحاف يطلق عليها اسم (كمونه الشيوعيين) في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون!

وفي السياق ذاته, بمقدور الفنان حول سؤال العزيز أبو رافد ( فآبق بطي) عن القضية التي شغلت نقابة الصحفيين, خلال تلك الفترة أيضا, يوم جرت معاقبة كاتب هذه السطور, بعد رفضه المساهمة في العدد الخاص, الذي قررت المجلة المذكورة إصداره, بمناسبة ذكرى تأسيس حزب العفالقة التكريتي في نيسان عام 74!

لماذا نذهب بعيدا وندعو الفنان حول إلى جولة في ذاكرة الآخرين؟! بإمكانه بدلا عن ذلك القيام بجولة سريعة في ذاكرته, عسى أن يستعيد ما حدث معه شخصيا, عند عودته للعراق لإخراج فلم ( بيوت في ذلك الزقاق) أواخر عام 75 ؟! هل يا ترى نسى - أو يريد أن ينسى- مضايقات وسفالات بعض (المثقفين) المرتزقة ممن كانوا يحتلون مواقع قيادية مسؤولة في ميدان الأعلام والفن, بعد انتقالهم الذليل إلى مواقع السلطة, وبالشكل الذي دعاه يوم ذاك, إلى الهروب من جديد من الوطن, رغم جميع أحلامه ومشاريعه الجميلة لتعزيز الفن السينمائي في العراق ؟!

لقد تألمت كثيرا للمصير المأساوي, الذي انتهى أليه أحمد فياض المفرجي, شأن كل من عرفه عن قرب ولكن هذا الألم يجب أن يعزز الحقد في نفوسنا, ليس فقط ضد النظام وإنما ضد السفلة, الذين كانوا يحاصرون المفرجي, ويزرعون الخوف في نفسه (ومن بينهم أحد زملاء حول في (الوفاق) اعني المرتزق مهدي على الراضي) خاصة وأن هولاء السفلة كانوا يعرفون تماما, أن عواطف المفرجي وفكره ومشاعره, كانت مع المثقفين التقدميين, والشيوعيين منهم بشكل خاص, وكان إصراره على مواصلة عمله, في أرشفة تاريخ الفن المسرحي والسينمائي في العراق, ينطلق من وعيه وقناعته بأن نجاحه على صعيد هذا العمل, هو ما يستطيع أن يقدمه, لخدمة تاريخ الثقافة التقدمية, بحكم الدور الرائد الذي لعبه المثقفون التقدميون, في إقامة وإرساء الدعائم الأساسية, للفن المسرحي والسينمائي في العراق.

الأمر إذن ومن خلال هذه الوقائع, وهناك الكثير مما يمكن قوله على هذا الصعيد, لا يتعلق بتقديري, بالموقف من المثقفين في الداخل , وإنما بالموقف من بعض ( مثقفي النظام) ممن انتقلوا , أو بالأحرى تم شحنهم إلى الخارج وتركز وجودهم بشكل خاص في هولندا.

إذ من الصعب, أن لم يكن من المستحيل, المطالبة هكذا بتحديد الموقف وبجرة قلم من جميع (المثقفين في الداخل) دون تمييز بين مثقف وأخر, لان ذلك ينطوي أساسا على الإجحاف بحق أولئك المثقفين, الذين واصلوا نضالهم في الداخل, وتحملوا كل أشكال التعسف جراء رفضهم التحول, إلى قردة في سيرك صدام, ومن بينهم من تمكن خلال السنوات الأخيرة من الخروج من الجحيم, ليواصل عمله بكل حماس وجدية في إطار النضال الصعب والشاق, الذي يخوضه جميع العراقيين الشرفاء, من اجل إزاحة الكابوس الفاشي من سماء عراقنا الجميل!

من حق قاسم حول, أو أي عراقي أخر أن يطالب بإسدال الستار عن ماضي المثقفين ممن تفانوا في خدمة صدام وما كنته الدعائية, خاصة وان العديد من هولاء المثقفين كانوا ذات يوم قريبين جدا إلى نفوسنا جميعا, ولكن الموقف من النظام والنضال ضده, يحتم علينا تحديد مواقفنا على هذا الصعيد, دون أن يخضع ذلك إلى الاعتبارات الصداقية والذكريات المشتركة.. ..ذلك هو بتقديري السبيل الحقيقي لمساعدة هولاء المثقفين إلى العودة إلى منابعهم وجذورهم الحقيقة , هذا إذا كان لديهم الاستعداد الذاتي, لتحقيق هذه العودة, على قاعدة العمل ضد نظام القتلة الفاشيين في العراق.

أن يترك أي مثقف ومهما كان وزنه على صعيد الساحة الثقافية, موقعه في جهاز السلطة الدعائي..ذلك كسب ولكن... أن يحاول أمثال هولاء المثقفين المزاودة, وتصوير أنفسهم بمثابة الأبطال, الذين تحملوا تبعات مواجهة النظام, بعد أن تركناهم لوحدهم ..فان ذلك يستدعي تذكير هولاء بماضيهم غير المشرف, للحيلولة دون مواصلة هذا الماضي على صعيد الحاضر !

سمير سالم داود

مطبوع (الحقيقة) العدد الثامن كانون الثاني 1999